
"حياة في الإدارة" ليس مجرد كتاب في الإدارة يتناول النظريات المجردة، بل هو سيرة ذاتية ملهمة تقدم فلسفة كاملة في القيادة والحياة. دوّنها الدكتور غازي القصيبي - رحمه الله - بأسلوبه الأدبي الرشيق والساخر أحيانًا، ليختصر لنا رحلة طويلة حافلة بالتحديات والإنجازات في عالم الإدارة العامة والقطاع الخاص. يقدم الكتاب خلاصة تجاربه في أهم المناصب التي تولاها، مبتدئًا بوزارة الصحة، مرورًا بوزارة الصناعة والكهرباء، ثم وزارة العمل، وليس انتهاءً بمنصب سفير للمملكة. هذا الملخص يستعرض أبرز الدروس والرؤى التي شكلت عصارة فكر القصيبي الإداري.
(لمحة عن المؤلف: الإداري الشاعر والأديب)
الدكتور غازي عبد الرحمن القصيبي (1940 – 2010) هو شخصية سعودية فريدة جمعت بين عدة أضلاع: إداري متميز، شاعر وأديب، ودبلوماسي. هذه التركيبة الثلاثية هي سر تميز رؤيته الإدارية. لم يكن تقنيًا صرفًا، بل كان قائدًا يرى المؤسسة ككائن حي، يفهم نفسيات الأفراد، ويؤمن بقوة الثقافة والأدب في صقل شخصية القائد. دراسته للحقوق والعلاقات الدولية في مصر وبرينستون وأوسلو منحته منظورًا عالميًا، بينما عشقه للأدب منحه حساسية مفرطة تجاه البشر واللغة.
(أبرز الدروس والإستراتيجيات الإدارية في الكتاب)
1. نظرية "الجنرال شوارزكوف" في الإدارة:
يستعرض القصيبي قصة تعيين الجنرال الأمريكي نورمان شوارزكوف قائدًا لقوات التحالف في حرب الخليج الثانية. كانت المفاجأة أن شوارزكوف لم يكن الأعلى رتبة بين الجنرالات، بل تم اختياره لسمعة "الصلابة" و"الحزم" التي لازمته. الدرس هنا: لا يتم اختيار القادة دائمًا لأعلى مؤهلاتهم الأكاديمية أو أقدميتهم، بل لملاءمة شخصيتهم وسمعتهم للتحدي المطروح. ينطبق هذا على اختيار المديرين للمشاريع الصعبة أو الأزمات.2. الإدارة بالحزم لا بالعنف:
يميز القصيبي بوضوح بين "الحزم" و"العنف". الحزم هو اتخاذ القرار الصحيح في الوقت المناسب ولو كان صعبًا، بينما العنف هو استخدام الصوت العالي والإهانة. كان يرفض أن يصرخ في مرؤوسيه، معتبرًا أن الصراخ دليل على عجز المدير عن الإقناع. قيادته كانت قائمة على الاحترام والوضوح والثقة، مع عدم التهاون في تطبيق النظام.3. أهمية "السياسة" في الإدارة:
لا يقصد القصيبي بالسياسة الميكيافيلية، بل "فن الممكن" و"فن إدارة العلاقات". يروي كيف أن بعض القرارات الإدارية السليمة فشلت لأنها تجاهلت المشاعر والتحالفات غير المرئية داخل المؤسسة. القائد الناجح هو من يفهم الخريطة السياسية الداخلية والخارجية لمؤسسته ويتعامل معها بذكاء.4. التغيير الإداري: متى وكيف؟
عندما تسلم القصيبي وزارة الصحة، وجدها مؤسسة تعاني من مشاكل عميقة. لكنه لم يبدأ بالتغيير فورًا. نصحه أحد الحكماء قائلاً: "اجلس الأشهر الستة الأولى لا تصدر قرارًا.. استمع، تعلم، افهم.. ثم بعد ذلك قم بما تراه صوابًا." هذا هو جوهر فلسفته في التغيير: الدراسة العميقة قبل الحركة، وعدم التسرع في إصدار الأحكام أو القرارات.5. التعامل مع المعارضة والنقد:
لم يهرب القصيبي من النقد، بل تعامل معه بواقعية. كان يميز بين أنواع النقاد:الناقد البريء: الذي ينتقد عن جهل، وعلاجه يكون بالتوضيح.
الناقد الخبيث: الذي ينتقد بدافع الحقد مصلحة، وعلاجه يكون بالحزم والمواجهة القانونية أحيانًا.
الناقد المحترف: وهو الأهم، الذي ينتقد بدافع حرصه على المصلحة العامة، وعلاجه يكون بالاستماع الجاد وأخذ ملاحظاته على محمل الجد.
6. العلاقة مع المرؤوسين: القرب دون تدليل، والمسافة دون تباعد:
أكد القصيبي على أهمية وجود مسافة محترمة بين الرئيس ومرؤوسيه، لكن دون أن تتحول إلى حاجز غير مرئي يمنع التواصل الصريح. كان يشجع على وجود قنوات اتصال مفتوحة، ويستمع لآراء الجميع، من أصغر موظف إلى أكبرها.7. الإدارة كفن وليس كعلم:
رغم إيمانه بأهمية النظريات الإدارية، إلا أنه رأى أن التطبيق الناجح هو "فن". الفن يعتمد على الحدس، والمرونة، وفهم الطبيعة البشرية المعقدة. النجاح الإداري الحقيقي يأتي من المزج بين العلم (النظريات) والفن (التطبيق المرن والذكي).(خاتمة: الإرث الإداري للقصيبي)
يترك لنا كتاب "حياة في الإدارة" إرثًا ثمينًا يمكن تلخيصه في أن القيادة الناجحة هي التي:
تبنى على المعرفة العميقة وليس على الاندفاع.
تتعامل مع الناس باحترام وحزم في آن واحد.
تكون مرنة وتفهم سياقات السياسة والعلاقات.
تتحلى بالشجاعة في اتخاذ القرارات الصعبة.
تدرك أن الإدارة مسؤولية أخلاقية قبل أن تكون سلطة.
الكتاب هو دليل عملي لكل من يريد أن يكون قائدًا مؤثرًا، لا مجرد مدير behind a desk.